فصل: تفسير الآيات (93- 94):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (93- 94):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)}
{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} توبيخ من جهة الله تعالى وتكذيبٌ لهم في ادعائهم الإيمانَ بما أُنزلَ عليهم بتذكير جناياتِهم الناطقةِ بكَذِبهم أي واذكروا حين أخذنا ميثاقَكم {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} قائلين: {خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واسمعوا} أي خذوا بما أُمرتم به في التوراة واسمعوا ما فيها سمعَ طاعةٍ وقَبول {قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال سائلٍ كأنه قيل: فماذا قالوا؟ فقيل: قالوا: {سَمِعْنَا} قولَك {وَعَصَيْنَا} أمرَك فإذا قابل أسلافُهم مثلَ ذلك الخطابِ المؤكدِ مع مشاهدتهم مثلَ تلك المعجزةِ الباهرةِ بمثل هذه العظيمة الشنعاءِ وكفروا بما في تضاعيف التوبةِ فكيف يُتصوّر من أخلافِهم الإيمانُ بما فيها.
{وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل} على حذف المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامُه للمبالغة أي تَداخَلَهم حبُّه ورسَخَ في قلوبهم صورتُه لفَرْط شغَفِهم به وحِرصِهم على عبادته كما يَتداخل الصبغ الثوبَ والشرابُ أعماقَ البدن، و{في قلوبهم} بيانٌ لمكان الإشرابِ كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} والجملة حالٌ من ضمير قالوا بتقدير قد {بِكُفْرِهِمْ} بسبب كفرِهم السابقِ الموجبِ لذلك، قيل: كانوا مجسِّمة أو حلولية، ولم يرَوا جسماً أعجبَ منه فتمكّن في قلوبهم ما سوَّل لهم السامريُّ {قُلْ} توبيخاً لحاضري اليهود إثرَ ما تبين من أحوال رؤسائِهم الذين بهم يقتدون في كل ما يأتون وما يذرون {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم} بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدّعون، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي ما ذكر من قولهم سمعنا وعصينا وعبادتِهم العجلَ، وفي إسناد الأمرِ إلى الإيمان تهكّمٌ بهم، وإضافةُ الإيمانِ إليهم للإيذان بأنه ليس بإيمانٍ حقيقة كما يُنبىء عنه قوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإنه قدْحٌ في دعواهم الإيمانَ بما أنزل عليهم من التوراة وإبطالٌ لها، وتقريرُه: إن كنتم مؤمنين بها عاملين فيما ذُكر من القول والعملِ بما فيها فبئسما يأمرُكم به إيمانُكم بها، وإذ لا يسوِّغُ الإيمانَ بها مثلُ تلك القبائحِ فلستم بمؤمنين بها قطعاً. وجوابُ الشرط كما ترى محذوفٌ لدلالة ما سبق عليه {قُلْ} كرر الأمرَ مع قرب العهد بالأمر السابق لما أنه أمرٌ بتبكيتهم وإظهارِ كذِبهم في فنٍ آخرَ من أباطيلهم لكنه لم يُحْكَ عنهم قبل الأمر بإبطاله بل اكتُفيَ بالإشارة إليه في تضاعيف الكلام حيث قيل: {إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الاخرة} أي الجنةُ أو نعيمُ الدار الآخرة {عِندَ الله خَالِصَةً} أي سالمة لكم خاصة بكم كما تدّعون أنه لن يدخُلَ الجنةَ إلا من كان هوداً أو نصارى، ونصبُها على الحالية من الدار وعند ظرفٌ للاستقرار في الخبر أعني لكم، وقوله تعالى: {مّن دُونِ الناس} في محل النصبِ بخالصة يقال: خلَص لي كذا من كذا، واللامُ للجنس أي الناس كافة أو للعهد أي المسلمين {فَتَمَنَّوُاْ الموت} فإن من أيقن بدخول الجنة اشتاقَ إلى التخلص إليها من دارة البوارِ وقرارة الأكدار، لاسيما إذا كانت خالصة له كما قال علي كرم الله وجهه: «لا أبالي أسقطتُ على الموت أو سقط الموتُ عليّ».

.تفسير الآيات (95- 96):

{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس} من الوُجدان العقليّ، وهو جار مجرى العلم خلا أنه مختصٌّ بما يقع بعد التجربة ونحوِها، ومفعولاه الضميرُ وأحرصَ، والتنكيرُ في قوله تعالى: {على حياة} للإيذان بأن مرادهم نوعٌ خاص منها وهي الحياة المتطاولة، وقرئ بالتعريف {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} عطفٌ على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل: أحرصَ من الناس ومن الذين أشركوا، وإفرادُهم بالذكر مع دخولهم في الناس للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرصِ، للمبالغة في توبيخ اليهودِ، فإن حرصَهم وهم معترفون بالجزاء لمّا كان أشدَّ من حرص المشركين المنكرين له دلّ ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار، ويجوز أن يُحملَ على حذف المعطوف ثقةً بإنباء المعطوفِ عليه عنه، أي وأحرصَ من الذين أشركوا فقوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} بيان لزيادة حرصِهم على طريقة الاستئناف ويجوز أن يكون في حيز الرفعِ صفةً لمبتدإٍ محذوفٍ خبرُه الظرفُ المتقدم على أن يكون المرادُ بالمشركين اليهودَ لقولهم عزيرٌ بنُ الله، أي ومنهم طائفة يودُّ أحدُهم أيَّهم كان، أي كلُّ واحد منهم {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} وهو حكاية لودادتهم كأنه قيل: ليتني أُعَمَّرُ، وإنما أُجريَ على الغَيبة لقوله تعالى يود كما تقول حلف بالله ليفعلَنّ، ومحلُه النصبُ على أنه مفعولُ يود إجراءً له مجرى القول لأنه فعل قلبيٌّ {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب} ما حجازيةٌ والضميرُ العائد على {أحدُهم} اسمُها وبمُزَحْزحِه خبرُها والباء زائدة و{أَن يُعَمَّرَ} فاعلُ مزحزحِه أي وما أحدهم بمَنْ يزحزِحُه أي يُبعده وينْجيه من العذاب تعميرُه، وقيل: الضمير لما دل عليه يُعمَّر من المصدر، و{أن يعمر} بدلٌ منه وقيل: هو مبهم، وأن يعمّر مفسرةٌ والجملةُ حال من أحدهم والعامل يود لا يُعمَّر على أنها حالٌ من ضميره لفساد المعنى، أو اعتراض. وأصلُ سنة سَنْوَة لقولهم سنَوَات وسَنْية وقيل: سَنْهة كجبهة لقولهم سانهتُه وسُنَيهة وتسنّهت النخلة إذا أتت عليها السنون {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} البصيرُ في كلام العرب العالمُ بكنه الشيء الخبيرُ به، ومنه قولهم فلان بصيرٌ بالفقه، أي عليم بخفيات أعمالهم فهو مجازيهم بها لا محالة، وقرئ بتاء الخطاب التفاتاً وفيه تشديد للوعيد.

.تفسير الآية رقم (97):

{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}
{قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ} «نزل في عبد اللَّه بن صوريا من أحبار فدَك حاجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عمن نزل عليه بالوحي فقال عليه السلام: جبريلُ عليه السلام فقال: هو عدوُّنا لو كان غيرُه لآمنّا بك». وفي بعض الروايات «ورسولُنا ميكائيلُ فلو كان هو الذي يأتيك لآمنا بك، وقد عادانا مِراراً وأشدُّها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدِس سيُخْرِبُه بُخْتَ نَصَّرُ فبعثنا من يقتلُه فلقِيه ببابل غلاماً مسكيناً فدفع عنه جبريل عليه السلام، وقال: إن كان ربكم آمِرَه بهلاككم فإنه لا يسلِّطكم عليه وإلا فبأيِّ حق تقتلونه» وقيل: «أمره الله تعالى أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا»، وروي أنه كان لعمرَ رضي الله عنه أرض بأعلى المدينة، وكان ممرُّه على مدارس اليهود فكان يجلس إليهم ويسمع كلامَهم فقالوا: يا عمرُ قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال: والله ما أجيئكم لحبّكم، ولا أسألكم لشكٍ في ديني وإنما أدخُلُ عليكم لأزداد بصيرةً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأرى آثارَه في كتابكم ثم سألهم عن جبريلَ عليه السلام فقالوا: ذاك هو عدوُّنا يُطلِعُ محمداً على أسرارنا وهو صاحبُ كلِّ خسفٍ وعذاب، وميكائيلُ يجيء بالخِصْب والسلام فقال لهم: وما منزلتُهما عند الله تعالى قالوا: جبريلُ أقربُ منزلةً هو عن يمينه وميكائيلُ عن يساره وهما متعاديان فقال عمر رضي الله عنه: إن كانا كما تقولون فما هما بعدوَّيْن ولأنتم أكفرُ من الحمير، ومن كان عدواً لأحدهما فهو عدوٌّ للآخر، ومن كان عدواً لهما كان عدو الله سبحانه، ثم رجع عمرُ فوجد جبريلَ عليه السلام قد سبقه بالوحي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد وافقك ربُّك يا عمرُ فقال عمرُ رضي الله عنه: لقد رأيتُني في ديني بعد ذلك أصلبَ من الحَجَر». وقرئ {جَبرَئيلَ} كسلسبيل و{جَبْرَئِلَ} كجَحْمَرِشٍ و{جِبريلَ} و{جِبْرئلَ} و{جِبرائيل} ك{جبراعيلَ} و{جبرائِلَ} كجبراعل، ومَنْعُ الصرفِ فيه للتعريف والعُجمة، وقيل: معناه عبد اللَّه {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} تعليل لجواب الشرط قائم مقامَه، والبارزُ الأولُ لجبريل عليه السلام والثاني للقرآن، أُضمر من غير ذكر إيذاناً بفخامة شأنِه واستغنائه عن الذكر لكمالِ شهرتِه ونباهتِه لاسيما عند ذكر شيءٍ من صفاته {على قَلْبِكَ} زيادةُ تقريرٍ للتنزيل ببيان محلِّ الوحي فإنه القائلُ الأول له، ومدارُ الفهم والحفظ، وإيثارُ الخطاب على التكلم المبنيّ على حكاية كلام الله تعالى بعينه كما في قوله تعالى: {قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} لما في النقل بالعبارة من زيادة تقريرٍ لمضمون المقالةِ {بِإِذُنِ الله} بأمره وتيسيرِه مستعارٌ من تسهيل الحجاب وفيه تلويحٌ بكمال توجُّه جبريلَ عليه السلام إلى تنزيله وصدقِ عزيمتِه عليه السلام، وهو حال من فاعل نزّله وقوله تعالى: {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب الإلهية التي معظمُها التوراةُ حالٌ من مفعوله وكذا قوله تعالى: {وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ} والعاملُ في الكل نزّله، والمعنى من عادى جبريلَ من أهل الكتاب فلا وجهَ لمعاداته بل يجب عليه محبتُه فإنه نزله عليك كتاباً مصدِّقاً لكُتُبهم أو فالسبب في عداوته تنزيلُه لكتاب مصدّقٍ لكتابهم موافقٍ له وهم له كارهون، ولذلك حرفوا كتابهم وجحَدوا موافقتَه له لأن الاعترافَ بها يوجب الإيمانَ به، وذلك يستدعي انتكاسَ أحوالِهم وزوالَ رياستهم وقيل: إن الجواب فقد خلَع رِبْقةَ الإنصافِ، أو فقد كفر بما معه من الكتاب أو فليمُتْ غيظاً أو فهو عدوٌّ لي، وأنا عدوٌّ له.

.تفسير الآيات (98- 99):

{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)}
{مَن كَانَ عَدُوّا الله} أريد بعداوته تعالى مخالفةُ أمرِه عِناداً والخروجُ عن طاعته مكابرةً، أو عداوةُ خواصِّه ومقرَّبيه. لكنْ صُدّر الكلامُ بذكره الجليل تفخيماً لشأنهم وإيذاناً بأن عداوتَهم عداوتُه عز وعلا كما في قوله عز وجل: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} ثم صرح بالمرام فقيل: {وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} وإنما أفردا بالذكر مع أنهما أولُ من يشمَلُه عنوانُ المَلَكية والرسالة لإظهار فضلِهما كأنهما عليهما السلام من جنسٍ آخَرَ أشرفَ مما ذكر تنزيلاً للتغايُر في الوصف منزلةَ التغايرِ في الجنس، وللتنبيه على أن عداوةَ أحدِهما عداوةٌ للآخر حسماً لمادة اعتقادِهم الباطلَ في حقهما حيث زعَموا أنهما متعاديان، وللإشارة إلى أن معاداةَ الواحدِ والكلِّ سواءٌ في الكفر واستتباعِ العداوةِ من جهة الله سبحانه، وأن من عادى أحدَهم فكأنما عادى الجميعَ، وقولُه تعالى: {فَإِنَّ الله عَدُوٌّ للكافرين} أي لهم جوابُ الشرط والمعنى من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشدَّ العقاب وإيثارُ الاسميةِ للدلالة على التحقق والثباتِ، ووضعُ الكافرين موضعَ المضمرِ للإيذان بأن عداوةَ المذكورين كفر، وأن ذلك بيِّنٌ لا يحتاج إلى الإخبار به، وأن مدارَ عداوتِه تعالى لهم وسخطِه المستوجبِ لأشدِّ العقوبة والعذابِ هو كفرُهم المذكور. وقرئ {ميكائِلَ} كميكاعِلَ و{ميكائيلَ} كميكاعيلَ و{ميكئِلَ} كميكعِلَ و{ميكَئيلَ} كميكَعيل {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ءايات بينات} واضحاتِ الدلالة على معانيها، وعلى كونها من عند الله تعالى، {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفاسقون} أي المتمردون في الكفر الخارجون عن حدوده فإن مَنْ ليس على تلك الصفة من الكفَرة لا يجترىء على الكفر بمثل هاتيك البينات. قال الحسنُ: إذا استُعمل الفسقُ في نوعٍ من المعاصي وقع على أعظمِ أفرادِ ذلك النوع من كفرٍ أو غيره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال ابنُ صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما جئتنا بشيء نعرِفُه وما أُنزل عليك من آية فنتّبعَك لها فنزلت. واللام للعهد أي الفاسقون المعهودون وهم أهلُ الكتاب المحرِّفون لكتابهم الخارجون عن دينهم أو للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً.

.تفسير الآيات (100- 101):

{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}
{أَوَكُلَّمَا عاهدوا عَهْدًا} الهمزةُ للإنكار والواوُ للعطف على مقدرٍ يقتضيه المقامُ أي أكفَروا بها وهي في غاية الوضوحِ وكلما عاهدوا عهداً ومن جملة ذلك ما أشير إليه في قوله تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} من قولهم للمشركين: قد أظل زمانُ نبيَ يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلُكم معه قتلَ عادٍ وإرَمَ. وقرئ بسكون الواو على أن تقدير النظم الكريم، وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهودَهم مراراً كثيرة، وقرئ {عوُهِدوا} وعهِدوا، وقوله تعالى: عهداً إما مصدرٌ مؤكد لعاهَدوا من غير لفظِه أو مفعولٌ له على أنه بمعنى أعطَوُا العهدَ {نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم} أي رمَوْا بالزِّمام ورفضوه، وقرئ {نَقَضَه} وإسنادُ النبذِ إلى فريق منهم لأن منهم من لم ينبِذْه {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي بالتوراة وهذا دفعٌ لما يُتوَهَّم من أن النابذين هم الأقلون، وأن من لم ينبِذْ جِهاراً فهم يؤمنون بها سراً {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ} هو النبي صلى الله عليه وسلم، والتنكيرُ للتفخيم {مِنْ عِندِ الله} متعلق بجاءَ أو بمحذوفٍ وقعَ صفةً لرسول لإفادة مزيدِ تعظيمِه بتأكيد ما أفاده التنكيرُ من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية {مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} من التوراة من حيث أنه صلى الله عليه وسلم قرر صِحتها وحقق حَقّيةَ نبوة موسى عليه الصلاة والسلام بما أُنزل عليه أو من حيث أنه عليه السلام جاء على وَفق ما نُعت فيها {نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} أي التوراةَ، وهم اليهودُ الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ممن كانوا يستفتحون به قبل ذلك لا الذين كانوا في عهد سليمانَ عليه السلام كما قيل لأن النبذَ عند مجيءِ النبي صلى الله عليه وسلم لا يُتصوَّرُ منهم، وأفرد هذا النبذُ بالذكر مع اندراجِه تحت قوله عز وجل: {أَوْ كُلَّمَا عاهدوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم} لأنه معظمُ جناياتِهم ولأنه تمهيدٌ لذكر اتّباعهم لما تتلو الشياطينُ وإيثارِهم له عليه، والمرادُ بإيتائها إما إيتاءُ علمِها بالدراسة والحفظ والوقوفِ على ما فيها، فالموصولُ عبارة عن علمائهم وإما مجردُ إنزالِها عليهم فهو عبارةٌ عن الكل، وعلى التقديرين فوضعُه موضِع الضمير للإيذان بكمال التنافي بين ما أُثبت لهم في حيز الصلةِ وبين ما صدر عنهم من النبذ {كتاب الله} أي الذي أوُتوه قال السدي: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراةُ والفرقانُ فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصَفَ وسحرِ هاروتَ، وماروتَ فلم يوافق القرآنَ فهذا قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ الله} الخ، وإنما عَبَّر عنها بكتاب الله تشريفاً لها وتعظيماً لحقِها عليهم وتهويلاً لما اجترأوا عليه من الكفر بها وقيل: {كتابَ الله} القرآنُ نبذوه بعد ما لزِمهم تلقِّيه بالقَبول لاسيما بعد ما كانوا يستفتحون به من قبلُ فإن ذلك قَبولٌ له وتمسُّكٌ به، فيكون الكفرُ به عند مجيئه نبذاً له كأنه قيل: كتابَ الله الذي جاء به فإن مجيءَ الرسول مُعربٌ عن مجيء الكتاب {وَرَاء ظُهُورِهِمْ} مَثَلٌ لتركهم وإعراضِهم عنه بالكلية مثل بما يرمى به وارءَ الظهر استغناءً عنه وقلّةَ التفاتٍ إليه {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} جملةٌ حاليةٌ أي نبذوه وراء ظهورِهم مُشبَّهين بمن لا يعلمه، فإن أريد بهم أحبارُهم فالمعنى كأنهم لا يعلمونه على وجه الإيقان ولا يعرفون ما فيه من دلائلِ نبوتِه عليه الصلاة والسلام ففيه إيذانٌ بأن علمَهم به رصينٌ لكنهم يتجاهلون أو كأنهم لا يعلمون أنه كتابُ الله أو لا يعلمونه أصلاً كما إذا أريد بهم الكل.
وفي هذين الوجهين زيادةُ مبالغةٍ في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة. هذا وإن أريد بما نبذوه من كتاب الله القرآنَ فالمرادُ بالعلم المنفيِّ في قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} هو العلمُ بأنه كتابُ الله ففيه ما في الوجه الأول من الإشعار بأنهم مُتيقِّنون في ذلك، وإنما يكفُرون به مكابرةً وعِناداً.
قيل إن جيل اليهود أربعُ فرقٍ: ففِرقةٌ آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهلِ الكتاب وهم الأقلون المشارُ إليهم بقوله عز وجل: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وفِرقةٌ جاهروا بنبذ العهودِ وتعدّي الحدود تمرُّداً وفسُوقاً وهم المعنيُّون بقوله تعالى: {نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم} وفِرقةٌ لم يجاهروا بنبذها لجهلهم بها وهم الأكثرون، وفِرقةٌ تمسكوا بها ظاهراً ونبذوها خُفْيةً وهم المتجاهلون.